الجمعة، 29 أكتوبر 2010

الرقابة على الإنترنت





صدر في منتصف شهر حزيران/ يونيو الماضي تقرير عن سرعة تدفق الإنترنت عالمياً
 وكانت تونس الأفضل مغاربياً والرابعة عربياً. غير أن ذلك لا يتناسب عموماً مع التذمر المعتاد للمبحر التونسي على النت من بطء الخدمة، كما أن الرتبة العالمية لتونس لا تتجاوز التسعين. والحقيقة إن كان هناك ضرورة لتقويم هذا الترتيب، فهو يعكس أساساً ضعف تدفق الإنترنت عربياً مقارنةً بالمعايير الدولية. غير أن وضع النت التونسي ليس مسألة بنية تحتية فقط، بل أيضاً وأساساً مسألة قدرة على الإبحار بحرية. وهو الأمر الذي ليس من الصعب أن تجد تجارب شخصية عنه لدى معظم مستعملي النت. الخصوصية التونسية أيضاً هي أن يجري تجريب الشعور الغليظ لعملية الحجب وأنت خارج البلاد.
في خضمّ إحدى موجات الحجب المكثفة التي استهدفت المدوّنات، تحديداً بداية سنة 2010، جرى حينها حجب إحدى مدوّناتي المعنونة «أفكار ليلية»، وهكذا شعرت بمحاولة نفيي. إذ كانت المدونة إحدى الصيغ للتواصل مع الوطن من المهجر. حجبها، مثلما تبيّن في ما بعد، كان مقدّمة لاغتيالها، إذ إنّ جمهورها الرئيس هو قرّاء الداخل. حجبها يضع على جبهتها لافتة بطولية، لكن أيضاً وفي الوقت نفسه، يُعدّ مؤشراً أحمر لشباب تونسي لا يزال مرتعداً من متعلقات السياسة والخطوط الحمراء للسلطات. شيئاً فشيئاً ابتعدت عن مدوّنتي، حيث يبدو أن الرقيب نجح في طردي منها، وهي معزولة جرداء. بارقة الأمل كانت حينها دعوات أصدقاء مدوّنين للالتجاء السياسي ـــــ التدويني في مدوّناتهم التي لم تُحجب بعد. لم يمر وقت طويل (نيسان/ أبريل) حتى حُجب عدد هائل من المدوّنات في واحدة من أكبر موجات الحجب. الحجب تكثّف في ما بعد للّحاق بنا في بروفيلات «فايسبوك» الشخصية، في ذلك الفضاء الخاص الذي يصبح بفعل قوة الإقصاء فضاءً عاماً.
لكن لا توجد في إنترنت تونس سياسة حجب فحسب، بل توجد أيضاً سياسة حجب للحجب. وهكذا، فإن صفحة الحجب التي يجب أن تحمل رمز (403) يجري تمويهها تحت رمز (404) وهي الصفحة التي تستهدف تضليل المبحر وإيهامه بأن المشكلة في موقع النت لا في تدخل جهة تمنع الحجب. وهكذا يجب علينا في تونس، التي لطالما رفعت السلطة فيها بيارق «الحداثة والتنوير»، أن نحسد أوضاع السعودية والبحرين والإمارات، حيث تقوم مؤسسة الحجب بالتصرف بشفافية أكبر من خلال إعلان الحجب ومعاييره، بل أيضاً إحداثيات الجهة التي يجب الاحتجاج أمامها. بل يجب أن نحسد أرضاً عربية محاصرة مثل غزة، حيث كشف المدون سامي بن غربية في زيارة تكوينية منذ أشهر قليلة أن «حكومة حماس» أكثر ليبرالية مما يمكن أن نعتقد، حيث يُسمَح حتى بالدخول إلى «المواقع الإباحية» حسب المتحدث باسم وزارة داخليتها. أمّا في تونس، فتعمل مؤسسة الحجب بسرية كأيّ مؤسسة خارج القانون، ليس لها وجه أو عنوان أو صفة. حتى إن مستعملي الإنترنت (أكثر من مليونين من جملة عشرة ملايين ساكن) اخترعوا اسماً ووجهاً لشخص وهمي سمّوه «عمار 404» لكي يتمكّنوا من توجيه احتجاجهم إلى مكان ما، حتى لو كان وهمياً وموسوماً بالسخرية (مخترع هذا التوصيف مدون تونسي وقد اختار اسم عمار لأنه اسم الشخص الذي يمارس في حيّه مهمة المراقبة الأمنية)، ولا سيما أن الطابع السياسي للحجب وسيادة خوف الجمهور التونسي من التعبير السياسي الاحتجاجي يؤدي إلى ترسيخ الصراع مع المؤسسات «المخفية الاسم» هذه. التعبير الاحتجاجي الجديد ضد الحجب، الذي تقوده مجموعة غير مهيكلة ومتنوعة الخلفيات من الشباب التونسي، يبدو متصاعداً إلى درجة أنه يمكن أن يكون قاطرة لأشكال جديدة من الاحتجاج مثلما تبين في مبادرة 22 أيار/ مايو، التي حاولت نقل الاحتجاج الى الشارع عبر القانون، أو حملة الرسائل الاحتجاجية و المفتوحة لأعضاء «البرلمان» في شهر تموز/ يوليو، أو طريقة «الفلاشموب» التي دُفنت في مهدها من خلال محاصرة الناشطين في بداية شهر آب/ أغسطس الماضي. لكن في كل هذه المراحل، وحتى مع عدم القدرة على خوض تحركات ميدانية سلمية، كان الصدى الإعلامي واسعاً. إذ رغم استمرار تحكّم السلطات في الشارع، فلقد جرى إنهاء هذا الاحتكار على مستوى النت والصورة عموماً، وهو القسم الذي لم يصبح «افتراضياً» جداً في شارع القرن الواحد والعشرين.
في المقابل، كانت أكثر الحالات التراجيدية هي حالات مبرّري الحجب: هم عادة «إعلاميون» ناطقون باسمه، ومحرومون في الوقت ذاته من أيّ صفة تخوّلهم التحدّث رسمياً باسمه. يتخبّطون عادةً في خطاب متناقض ينفي الحجب ويؤكده في الآن نفسه. يسوقون تبريرات من نوع أنه «لا يوجد بلد لا يوجد فيه حجب»، وكأنّ المشكلة هي مطالب «تحررية» 
(libertarian)
 إطلاقية، لا الحد الأدنى من الشفافية والمؤسساتية في عملية الحجب، حيث هي، حتى في قطاع غزة المحاصر، الاستثناء لا القاعدة.
لا يمكن التشكيك أيضاً في وجود نزعة «تحررية» من النوع الساذج، أصبحت تمثّل بعض الخطاب السياسوي، عن وعي أو غير وعي، لمعارضات محدودة الفاعلية ليس لها أحياناً الكثير من الخيارات سوى تصعيد الضغط الكلامي على حكومات تمارس سياسات غير إدماجية
 (non inclusive)
. إذاً ليست عناوين «عقل» أو «منطق» أو «مصالح» الدولة في ذاتها هي ما يمثّل مأزق الخطاب التبريري. تبريرية ولاعقلانية الطرح المذكور أعلاه تكمنان في تعريفهما التعويمي للدولة. سنتجاوز مضيعة الوقت في هذا الجدال عندما نتحلى بجدية فكرية أكبر ونتذكر أنّ أي مجال سياسي تأسس على عقد اجتماعي وسياسي يتكوّن تاريخياً عبر مؤسسات تمثيلية سيفرز بالضرورة مقاربة مختلفة، لنقل عن مجال ليس له عقد مماثل، في طريقته لتحديد «مصالح» الدولة. فالدولة غير الإدماجية تحدد «المصلحة» و«منطقها» من زوايا لا تمثل ضرورة القطاعات المتنوعة المشكلة لذلك الفضاء. لا يقع تعريف «مصالح» الدولة بمعزل عن طبيعتها وتحديداً في العلاقة بمدى تمثيليتها وتعبيرها المؤسساتي عن عقدها الاجتماعي.

يجري تمويه الحجب لإيهام المبحر بأن المشكلة في موقع النت لا في تدخل جهة رقابية
المشكلة أيضاً هي وضع سياسي عام يشهد محدودية حرية التعبير مثلما تشير ليس فقط تقارير منظمات حقوقية دولية و«نقابة الصحافيين» المحلية (قبل انقسامها) بل حتى الخطاب الرسمي في لحظات الصفو العابرة وتحت الضغط. الحقيقة أن حجب النت وحجب الحجب هما تحديداً عنوانا وضع حرية التعبير في البلاد، إذ إنّه في الإنترنت ينشط معظم سكان البلاد، أي شبابها. ولا أدري إن كان من باب «خفة الدم» أو «ثقله» أن الحكومة التونسية هي التي كانت وراء مبادرة «السنة الدولية للشباب» وخاصةً «الحوار» معه هذا العام (نعم «الحوار» معه لم يكن ذلك خطأً مطبعياً).
قد تنتاب الرقيب أحياناً مشاعر النصر عند النجاح في تحويل فضاء إلكتروني الى أرض جرداء، لكن إلى أيّ حد يستطيع أن يقاوم المستقبل. فرقيب اليوم، ومثلما جرّبنا جميعاً في تونس، هو رقيب أقل هيبة من رقيب الأمس. أما رقيب الغد، فلن يكون أكثر حظاً. ويساورني القليل من الشك في أننا سننظر يوماً ما كتونسيّين بشيء من العار إلى هذه المرحلة، إذ الرقيب لم يكن موجوداً إلّا بسبب وجود الصامتين والمتردّدين. لكن برغم مسار مواجهة الحجب المتعثر والمتقطّع القائم على رد الفعل، فإنه بصدد إبداع أشكال جذابة وجديدة يحقّق عبرها شباب اليوم ذاتهم التاريخية، المتمايزة عن الأجيال التي سبقتهم، والتي لطالما هيمنت ولا تزال على الساحة. فمعركة مقاومة الحجب، سواء فهم ذلك المعنيون بها أم لم يفهموا بعد، هي قاطرة لصراع أكثر شمولاً وعمقاً وأفقاً. إذ إن كل هذا الشباب المقعد اجتماعياً وسياسياً والمعزول بأثر شبكة الرقيب لم يبقَ له إلا أن يتلصص على العالم من الثقوب الممكنة على الإنترنت. وإذا اختنق أكثر فأكثر، فإنه لن يبقى له شيء ليخسره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق